استمرار انحسار منسوب نهر الفرات يهدد الصحة العامة والثروة الزراعية والحيوانية في الرقة شمال شرقي سوريا

Also available in English
Bi Kurdî jî peyda dibe

سولنار محمد
أُنتج هذا العمل بدعمٍ مالي من الاتحاد الأوروبي، أمّا المواد الواردة فيه، فهي لا تعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي، كما أنّها مسؤولية سولنار محمد وحدها، والذي أعدّنها المادة لصالح الشراكة بين منظمة نيكستيب وراديو ولات إف إم.

“لاحظنا شحوباً تحت عينَيّ والدتي، مترافقاً بشعورها بألم شديد في الخاصرة, وباتت صحتها تتدهور يوماً تِلوَ الآخر, ليتبيّن لنا أنّ السبب هو شربها للمياه الملوثة، بعد مراجعة طبيب مختص” لم يقتصر المرض على والدة ريم السلامة (32 عاماً) من مدينة الرقة شمال شرقي سوريا, وإنما أُصيب عدد آخر من أفراد أسرتها, ولاسيّما الأطفال منهم/ن, نتيجة  انخفاض منسوب نهر الفرات واستعمال المياه الراكدة “الآسنة”.

وتراجع منسوب مياه نهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويمر بسوريا والعراق، منذ كانون الثاني/يناير من العام 2021, وحذّر خبراء، ومنظمات إنسانية من حدوث كارثة إنسانية في حال استمرار انحسار منسوب النهر, وما ينتج عنه من تهديد لحياة ملايين السكان.

تقول “ريم” إن انخفاض منسوب مياه الفرات اضطرها إلى اللجوء لاستخدام المياه الجوفية, رغم أنها ملوثة، لكن نسبة التلوث فيها أقل من تلك التي في مياه النهر.

فيما لجأ البعض الآخر إلى شرب المياه المعدنية المعقمة, إلا أن استمرارية المشكلة تحول دون قدرة الأهالي على شرائها باستمرار, بسبب أوضاعهم/ن الاقتصادية.

أما علي الحمود (37 عاماً), من سكان قرية الرطلة بريف الرقة, فقد أصبح يعاني من مشاكل معوية كـ”المغص” و”الإسهال المتكرر” وتكوّن الحصى في كليتَيه, نتيجة زيادة نسبة الشوائب بمياه الشرب في المنزل, مما دفعه لاستخدام أدوية مطهرة للأمعاء، متّبعاً إرشادات الطبيب.

وأوضح “الحمود” أن كمية المياه التي تصل لمنزله قليلة جداً, وتخضع لنظام التقنين, وبسبب ضعف التدفق في شبكات مياه الشرب ترتفع نسبة الشوائب والطحالب فيها, وبالتالي زيادة فرص الإصابة بالأمراض.

أما عن الحلول المقترحة فقد اتفق “علي” و”ريم” على ضرورة تطوير أساليب التعقيم في مضخات المياه, وتحديث المضخات القديمة, بالإضافة إلى حفر آبار “ارتشاحية” على ضفاف الفرات لضخ مياه شرب، أكثر نقاوة، للسكان بدلاً من استجرارها بشكل مباشر, مع تكثيف حملات التوعية للأهالي، لترشيد استهلاك المياه.

وفي عام 1987 وقعت سوريا اتفاقاً مؤقتاً مع تركيا يضمن حصولها على ما يزيد عن (500) متر مكعب في الثانية من مياه نهر الفرات من الجانب التركي، قبل أن تسجله لدى الأمم المتحدة عام 1989 لضمان  الحد الأدنى من حصتها, إلا أن هذه الكمية انخفضت إلى (200) متر مكعب في الثانية، منذ عامين، بحسب “شيخ نبي خليل” مسؤول مكتب التشغيل والري التابع للجنة الزراعة والري بالرقة (التابعة للإدارة الذاتية).

واتهم “خليل” في تصريح خاص لـ ولات أف أم، عبر تطبيق واتساب، تركيا بخفض حصة سوريا والعراق من مياه نهر الفرات, واستخدامها كورقة ضغط على الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا, ومحاربتها بشتى الوسائل ومن ضمنها قطع كمية المياه المتفق عليها دولياُ، وفق قوله.

وأوضح “خليل الشيخ” منسق المنظمات الطبية في لجنة الصحة بالرقة (التابعة للإدارة الذاتية)، أن انخفاض مستوى مياه نهر الفرات أدى لتشكل بيئة ملائمة لنمو “الميكروبات” و”البكتيريا” الضارة, وما ساهم بزيادة نموها هو ضعف تدفق المياه, الأمر الذي تسبب بانتشار كبير  لحالات التهاب المعدة والأمعاء مترافقة مع حالات إسهال شديدة, لاسيّما بين الأطفال، حيث بلغت نسبة الأطفال المصابين/ات بأمراض التهاب المعدة والأمعاء (70%) من الأمراض الأخرى, وهي حالات تتراوح بين المتوسطة والحادة، وفي ظل تزايد أعداد المصابين/ات بالأمراض الناتجة عن تلوث المياه، تعاني المراكز الصحية في الرقة من نقص في المضادات الحيوية، ومضادات الإقياء، والمتممات الغذائية اللازمة للأطفال, والتي من شأنها معالجتهم/نّ من حالات  الجفاف الحاد، التي تترافق مع حدوث الإسهالات وفق “الشيخ”.

 تأثير انحسار مياه الفرات على القطاع الزراعي

“علاقة المزارع مع الأرض هي علاقة حب ووجود, ومع انحسار منسوب نهر الفرات مررنا بأيام عصيبة, فعندما كنت أنظر إلى أرضي وقد أصبحت بوراً، شعرتُ وكأن أحد/إحدى أطفالي قد أصابه/ها المرض، ولا أقوى على تقديم العلاج له/ها”، بهذه الكلمات لخص المزارع خلف البعلاو ما آلت إليه أرضه الزراعية نتيجة انخفاض منسوب نهر الفرات في منطقة الرقة.

ويقول “البعلاو” (47 عاماً) وهو من سكان قرية الرطلة في منطقة الشامية بريف الرقة, إنه عزفَ عن زراعة أرضه البالغة مساحتها (50) دونماً, منذ سنتين نتيجة انحسار مياه نهر الفرات فضلاً عن فشل محاولتين له في حفر بئر للمياه الجوفية, مما دفعه للاستعانة ببئر  تعود ملكيته لجارٍ له, ولكن ذلك أيضاً كلّفه مصاريف باهظة لم تتناسب مع إنتاج المحصول, ما ألحق به خسارة كبيرة دفعته لترك أرضه بوراً منذ ذلك الحين.

وبدأ انحسار منسوب نهر الفرات تدريجياً، خلال السنوات العشر الأخيرة نتيجة التغير المناخي وقلة الهطولات المطرية أولاً, وخفض تركيا لحصة سوريا والعراق من مياه النهر منذ سنتين ثانياً, الأمر الذي أثّر بشكل مباشر على القطاع الزراعي بسبب تدني مستوى منسوب النهر إلى ما دون مستوى محطات الري، ما دفع المزارعين للجوء إلى حلول إسعافية مثل تطويل أنابيب سحب المياه, وحصر مياه النهر لترتفع إلى مستوى المضخات المنشأة على المحطات على طول النهر وفق “البعلاو”, والذي أوضح أيضاً أن انخفاض منسوب النهر أثّر على المياه الجوفية, التي لجأ/ت المزارعون/ات  إليها عن طريق حفر الآبار وما يترتب عليهم/ن من عبء مالي إضافي, بسبب حاجتهم/ن لتركيب محركات “ديزل” ومد شبكات الري لسقاية أراضيهم/ن.

ومع انحسار منسوب نهر الفرات لجأ/ت المزارعون/ات في منطقة الرقة إلى زرع محاصيل شتوية تحتاج لريّ أقل كالقمح، على حساب محاصيل استراتيجية مثل القطن والذرة الصفراء والخضروات الصيفية, التي تحتاج  إلى ريّ أكثر في ظل ارتفاع درجات الحرارة بالتزامن مع نقص المياه، الذي يؤثر على جودة وإنتاجية تلك المحاصيل بحسب “البعلاو”. من جانبه أوضح مسؤول مكتب التشغيل والري في لجنة الزراعة بالرقة “شيخ نبي خليل” أن انخفاض منسوب نهر الفرات بدأ منذ عام 2018, لكن نسبة الهطولات المطرية خلال عام 2019، كانت غزيرة ولم تؤثر على عمل السدود, وخلال الأعوام 2020 -2021- 2022، عاود منسوب النهر  إلى الانخفاض بشكل كبير حيث انحسر منسوب سد تشرين إلى أقل  من /7/ أمتار, وسد الطبقة أقل من /5/أمتار, هذا الانخفاض أثّر بشكل مباشر على عمل السدود من حيث تراجع قدرتها على توليد الطاقة الكهربائية واستجرار المياه لريّ الأراضي الزراعية, فضلاً عن تلوث المياه الذي أدى إلى انتشار الأمراض بين السكان وفق ” خليل”.

وأضاف “خليل” أن السعة التخزينية لسد تشرين قبل عام 2011، كانت مليار و900 مليون متر مكعب, أما الآن فتراجعت إلى واحد مليار متر مكعب, فيما انخفضت المياه المخزنة في سد الطبقة من 14 مليار و160 مليون متر مكعب إلى 11 مليار متر مكعب, هذا الانخفاض تسبب بتراجع مساحة الأراضي الزراعية المروية من 93 ألف هكتار إلى 79 ألف هكتار.

ومن الجهود المبذولة من قبل مكتب التشغيل والريّ لتخفيف آثار نقص المياه, أكد”خليل” على تطبيقهم/ن للخطة الزراعية, وتفعيل البحوث العلمية لزراعة المحاصيل التي تتحمل العطش, ولاسيّما الشتوية منها للاستفادة من مياه الأمطار, بالإضافة إلى التواصل مع المجالس المحلية لشرح مشكلة المياه بهدف ترشيد السكان في استخدامها, كما أنه كان لاتباع وسائل الريّ الحديثة دور في توفير 50% من كمية المياه.

 الثروة الحيوانية الأكثر ضرراً من أزمة المياه

بعد أن توارثها عن آبائه وأجداده, يفكر محمد الإبراهيم (56)عاماً, بتغيير مهنة تربية المواشي التي يعمل بها, وذلك بسبب انخفاض منسوب مياه نهر الفرات, الذي أثّر في تأمين الكلأ والماء لأغنامه.

ويقول “الإبراهيم”، “أفكر ببيع جميع أغنامي والبحث عن مصدر رزق آخر  في ظل انخفاض أسعار المواشي وارتفاع تكاليف شراء صهاريج المياه لسقايتها, وما يجعلني أتردد في اتخاذ القرار هو أنني لا أتقن مهنة أخرى, ولأنها مهنة متوارثة في عائلتي من جهة أخرى”.

وتنقّل “الإبراهيم” وهو نازح من محافظة حمص ويقيم في منطقة الكرامة بريف الرقة الشرقي, من مكان لآخر بحثاً عن الكلأ والماء لأغنامه, ما أثّر سلباً على وضعه الاقتصادي كونه يعيل (14) شخصاً.

أصيبت أغنام “الإبراهيم” بمرض “الباستريلا”, وهو مرض تنفسي بكتيري معدي يظهر بشكل تسمم دموي أو التهاب رئوي, لتأتي أزمة المياه وتتسبب في تفاقم المرض, حيث بات يعتمد على مياه الصهاريج في سقايتها، ونظراً لتأخر وصول الصهاريج لساعات المساء، فقد أدى ذلك إلى نفوق خمسة رؤوس منها.

ولا يختلف الحال لدى أحمد الخلف (43) عاماً, وهو مربي أغنام من قرية السحل بريف الرقة الجنوبي, ويعتمد على مياه الآبار ومياه الصهاريج لسقاية أغنامه, ولكن انتشرت العديد من الأمراض بين مواشيه, منها مرض يسمى “أبو رفيش” ناتج عن المياه الملوثة, ويؤدي إلى إلتهابات في أمعاء الماشية, ونفوقها, حيث أصيب أكثر من(٢٥) رأس غنم لديه بهذا المرض, أدى لنفوق (١٨) رأس منها.

 وخلال سنتين انخفض عدد رؤوس الأغنام الخاصة بـ”الخلف” من (400) رأس إلى (150) رأس, بسبب اضطراره لبيع قسم منها لشراء الأعلاف لبقية القطيع, لنقص مساحة المراعي الطبيعية وخاصة المحاذية لنهر الفرات.

وطالب/ت مربّو/مربيات المواشي الجهات المسؤولة والمنظمات ذات الصلة, بحفر آبار, أو توفير صهاريج متنقلة في البادية, وتأمين دعم كاف لمربي المواشي, بالإضافة لتقديم لقاحات مجانية أو على الأقل مخفضة التكاليف.

أما نائب الرئاسة المشتركة للجنة الزراعة والريّ (التابعة للإدارة الذاتية)، والمشرف على الثروة الحيوانية في الرقة “منذر رفعت الصالح”, فقد أرجع سبب تدهور أوضاع الثروة الحيوانية لارتفاع سعر الأعلاف والمتممات العلفية, نافياً تأثرها بانخفاض منسوب نهر الفرات, حيث يعتمد/تعتمد مربيو/مربيات المواشي على الصهاريج وقنوات الريّ الزراعية في سقاية مواشيهم.

ومع ارتفاع أسعار الأعلاف وقلّة وجودها، يلجأ/تلجأ مربو/مربيات المواشي لضمان الأراضي المزروعة بالمحاصيل الزراعية قبل حصادها لاستخدامها كأعلاف لمواشيهم, إلا أن سعر الدونم الواحد يصل لـ(500) ألف ليرة سورية, وهو ما يزيد من معاناة مربيّ المواشي, ويحول دون قدرة الكثيرين/الكثيرات منهم/ن على التضمين, أو شراء الأعلاف, ما ينعكس سلباً على صحة مواشيهم/ن والتأثير بشكل مباشر على إنتاج الحليب والمواليد.

حيث تجاوزت نسبة النفوق من المواليد الجديدة للمواشي هذا العام (65%)من مجموع المواليد بسبب نقص الحليب في ضروع الأغنام وزيادة الأمراض كـ”توكسوبلازما” و”الحمى المالطية” بحسب “الصالح”.

وأشار “الصالح” في نهاية حديثه عبر تطبيق واتساب إلى أن الثروة السمكية تضررت بشكل كبير لدرجة اختفاء بعض أنواعها, بالإضافة لتأثر الكائنات الحية الموجودة في مياه النهر بسبب انخفاض منسوبه. في ظل استمرار انخفاض منسوب نهر الفرات, وغياب الحلول الناجعة من قبل الإدارة الذاتية إلى الآن, قد تكون مناطق شمال وشرق سوريا ولاسيّما مدينة الرقة وريفها على أبواب كارثة إنسانية مع تزايد الإصابات المرضية, نتيجة تلوث المياه ونقص المستلزمات الطبية, فيما لا يمكن تجاوز التهديد الذي يواجه مليونين و800 ألف رأس غنم, و32 ألف ناقة, بالإضافة لـ15 ألف بقرة تقريباً, هو التهديد ذاته الذي يواجهه القطاع الزراعي الذي يعتمد عليه سكان الرقة بشكل رئيسي إلى جانب الثروة الحيوانية كمصدر للدخل.

مشاركة:

علق تعليق