أزمة المياه وتأثيراتها على السلم الأهلي والتماسك المجتمعي: لا عدل في الحصول على الماء

Also available in English
Bi Kurdî jî peyda dibe

عاليه محمد
أُنتج هذا العمل بدعمٍ مالي من الاتحاد الأوروبي، أمّا المواد الواردة فيه، فهي لا تعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي، كما أنّها مسؤولية عاليه محمد وحدها، والذي أعدّنها المادة لصالح الشراكة بين منظمة نيكستيب وراديو ولات إف إم.

تنتظر جليلة حسين، وهي حاملة طفلها البالغ من العمر ثلاثة أعوام، كل صباح، دورها في الحصول على ما يكفيها من المياه لباقي ساعات اليوم, كما غيرها من النازحين/ات القاطنين/ات في الساحة العامة، في مدرسة اسماعيل طوقان, الواقعة ضمن أحد أحياء مدينة الحسكة، شمال شرقي سوريا.
في تلك المدرسة التي تحوي ما يقارب (40) عائلة نازحة، يوجد خزان واحد فقط للمياه، تلك الكمية من المياه التي عادةً ما تستخدمها عائلة واحدة في الحالة الطبيعية، ما يجعل مهمة الحصول على المياه أمراً عسيراً في أغلب الأحيان، في ظل وجود عدد كبير من العوائل التي يتقاسمونها، كما تتحدث جليلة لـ ولات إف إم، وتقول “في المدرسة القريبة منا، والتي يقطنها/ تقطنها نازحون/ات من مدينة سري كانيه/ رأس العين، توجد (10) خزانات للمياه، ونحن نملك خزاناً واحداً فقط، نحن أيضاً بشر مثلهم/ن، لذا نتضايق عند وجود تفرقة وتوزيع غير عادل للمياه، وَلَديْ من ذوي الاحتياجات الخاصة، لا أستطيع أن أُبقيه لوحده في الغرفة الخاصة بنا في المدرسة، لذا أضطر لأخذه معي للانتظار أمام خزان المياه، أحياناً نبقى لمدة ساعة حتى نحصل على حصتنا، وأحياناً لا نحصل عليها، والسبب لأننا نملك خزاناً واحداً”.

تحدث الخلافات بين من يقطنون/ن ذات المدرسة، والتي تم تحويلها لمركز إيواء للنازحين/ات، وهذا ما يؤكده محمود حميد، الذي يحصل مع عائلته المؤلفة من ثمانية أشخاص على كمية تتراوح بين (25) و(50) لتراً من المياه، لسد حاجتهم/ن خلال اليوم الواحد.
“تنتهي المياه بعد ساعة من تعبئة الخزان، كما أن بعض العوائل لا تأخذ حقها من المياه في بعض الأيام، لذا تحدث خلافات فيما بينها، حيث أن البعض يأخذ ضعف الكمية، والبعض الآخر لا يأخذ حصته نهائياً”، يقول حميد.

ما إن تتجه/ي من مركز الإيواء نحو أحياء المدينة، حتى تشاهد/ي الكثير ممن هم/ن منشغلون/ات بتأمين المياه لبيوتهم/نً، جُلّ ما يتحدثون/نً عنه هو المياه التي تنقطع بشكل مستمر عنهم/ن، ومن له/ها الحق بأن يسحب/تسحب المياه عبر مضخة مياه منزلية، من الآبار المحفورة ضمن بيوتهم/ن خلال الساعات التي تغذّي فيها الكهرباء تلك الأحياء، وهي الطريقة المتّبعة لدى أهالي المدينة بُغية الحصول على المياه، على الرغم من أنها غير صالحة للشرب، وعادة ما يختلف الجيران فيما بينهم/ن في هذه المسألة، لاسيّما أن الكهرباء تنقطع أيضاً لساعات طويلة، هذا ما تتحدث عنه تمام سعيد من سكان حي العزيزية.
“عندما أرى جاري يقوم بتعبئة المياه ويهدرها، أمتعض بشدة، حصلت مشكلة وخلافات بين الأهالي من أجل المياه، وستحصل أكثر ما لم يتم حل الموضوع، حتى أن هذه المشاكل حصلت بيني وبين جاراتي كثيراً، ذلك أن هناك من يحصلون/ن على المياه وآخرون/أخريات محرومون/ات منها” بحسب تمام.

المشاجرات والخلافات التي تحدث بين الأهالي في مدينة الحسكة، تعود لأسباب عدة منها الواقع المعيشي الصعب وسوء الخدمات، لاسيما المرتبطة منها بتأمين المياه، والتي لها تأثيرات على التماسك المجتمعي، ليس بين المجتمعات المختلفة وحسب، حسب “عباس علي موسى” الناشط المدني ومدير مشروع التماسك المجتمعي في منظمة ديموس، والذي يقول “هناك الكثير من الأسباب المرتبطة بمشكلة المياه، من الممكن أن يختلف الجيران فيما بينهم/ن، هناك مشكلات متعلقة بالآبار، إلى جانب خدمة البلديات في توزيع المياه، كلها أسباب من شأنها إحداث مشاكل بين الأهالي، حيث من الممكن أن تحدث مشاكل بين الأهالي على أساس توفر خدمة المياه وليس على أساس انتمائهم/ن لمجتمع معين”

مشكلة المياه ليست طارئة في مدينة الحسكة، لكنها تفاقمت أكثر بعد سيطرة تركيا وفصائل المعارضة السورية الموالية لها على مدينة رأس العين/سرى كانيه في تشرين الأول/أكتوبر عام 2019، حيث تقع محطة علوك، والتي تعدّ المصدر الوحيد لمياه الشرب لمئات الآلاف من الأهالي في مدينة الحسكة، بالإضافة إلى كونها المصدر الرئيسي الذي يغذي مخيمات الهول، العريشة، والتوينة، والتي تضم عشرات الآلاف من النازحين/ات داخلياً من مناطق سورية مختلفة.

حلول تزيد من خلافات الأهالي

هذه الأزمة كانت السبب في القيام بإيجاد الحلول الإسعافية، منها توزيع المياه عبر الصهاريج من مديرية المياه التابعة للإدارة الذاتية، إلى جانب تلك التابعة لبعض المنظمات الدولية، والصهاريج الخاصة أيضاً، إلا أنها غالباً ما كانت محل شكاوى الأهالي، منهم/ن فوزية الأحمد التي تجلس على بُعد مسافات قليلة من جارتها تمام، تشكو هي أيضاً من تلوث المياه التي تسبب لهم/ن أمراضاً في المعدة والكلى، كما أنها تشير في حديثها  إلى حدوث المشاجرات بشكل يومي نتيجة هذه الأزمة التي تشهدها المدينة.

تقول فوزية “تحدث المشاكل بشكل يومي بين زوجي وابن جارنا من أجل المياه، في الأوقات التي تأتي فيها المياه، أتمنى ألا يكون زوجي موجوداً في المنزل، كي لا تحصل أية مشكلة بينه وبين جارنا.. ليس هذا فحسب، هذه المياه التي نحصل عليها ملوثة، قبل ساعات كنتُ في المستوصف لهذا السبب، حيث أصبتُ بالتهاب في الأمعاء بسبب المياه”.

آخرون/أخريات تم اللقاء معهم/نّ حول ما يعانون/تعانين منه بسبب المياه التي تأتيهم/ن من الصهاريج، أغلبهم/ن تحدثوا/ن عن أمراض مشابهة نتيجة سوء نوعية المياه التي يشربونها/تشربنها.

من جهته يوضح أحمد الفرج المهندس المختص في مجال المياه، من مدينة الحسكة، سبب حدوث هذا الأمر، بقوله “بعض الصهاريج الخاصة التي يتم توزيع المياه من خلالها، لا تراعي الظروف الصحية، حيث يتم استخدامها في أماكن عدة، مثلاً بعضهم/ن يقومون/ن بغسل دورات المياه في المخيمات، ومن ثم يستخدمون/ن خراطيم الصهاريج ذاتها في تعبئة المياه داخل الأحياء، كما أنه يتم توزيع المياه أحياناً من قبل الصهاريج المقدّمة من قبل المنظمات والتي تكون أكثر نظافة، وفي حال حصول بعض الأهالي عليها، يسبب الأمر خلافاً بينهم/ن وبين من لا يحصلون/ن عليها”.

من جانبها تؤكد “ماجدة أمين” الرئيسة المشتركة للجنة البلديات والبيئة في مقاطعة الحسكة (التابعة للإدارة الذاتية) لـ ولات إف إم، بأن التوزيع من خلال اللجنة، يتم عبر ما يقارب (50) صهريجاً تشرف عليها مديرية المياه، إلى جانب المجالس المحلية، وفق سجلات تابعة لها، يتم تقييمها من قبلها، تجنباً لحصول تفرقة بين الأهالي، مشيرة إلى أن المياه التي يتم توزيعها عبر بعض الصهاريج الخاصة، تسبب العديد من الأمراض لعدم تعقيمها بطريقة صحيحة.

“تحدث بعض الخلافات، كما يقدم بعض الأهالي شكاوى، من جهتنا نراجع السجلات ونحن نقوم بتقييم الوضع عبر لجاننا الخاصة، ونحاول التدخل وحل المشكلة عن طريق الكومينات (الوحدات الإدارية الخاصة بالأحياء) والمجالس المحلية” تقول ماجدة.

تم طرح العديد من الحلول للحد من هذه الأزمة من قبل السلطات المحلية في شمال شرق سوريا، إلا أن الكثير من هذه الحلول لم يتم العمل عليها، منها استجرار مياه نهرَيّ الفرات ودجلة، التي من شأنها أن تكون حلاً لأزمة المياه، كما يشرح أحمد الفرج المهندس المختص في المياه “الحلول ليست جذرية، ولكن هناك حل جيد، وهو استخدام مياه نهرَيّ الفرات ودجلة عبر استجرارهما، ولكن تكلفة هذه العملية باهظة جداً، إذا تم العمل على تأمين مضخات عالية الجودة في هذه المشاريع، فمن الممكن أن تصل لأغلب أحياء مدينة الحسكة، مع مراعاة معالجة المياه، أما الحلول الإسعافية فهي التي يقدمونها الآن، وتتضمن توزيع المياه عبر الصهاريج، والآبار السطحية”.

وفي استبيان للرأي أجرته منظمة نيكستيب سابقاً، استهدف 103 شخصاً من مدينة الحسكة، عن خوض الأهالي لمشاجرات بسبب المياه، كانت النسبة (43.1%) ، أما فيما يخص رؤيتهم/ن لمشاجرات حدثت بسبب المياه بلغت النسبة (81.4%).

لجان الإنذار المبكر ومنظمات المجتمع المدني

تتعدى هذه الخلافات أهالي المدينة الواحدة، حيث أن الأهالي في مدينة الحسكة باتوا/بتن يشعرون/ن بنقمة تجاه نظرائهم/ن من المناطق الأخرى، التي تتوافر فيها المياه بدرجة أعلى من توافرها في مدينتهم/ن، كما يشرح عباس علي موسى بقوله “مشكلة المياه لها شقين، الأولى مرتبطة بمدينة الحسكة وأريافها، وقيام تركيا والفصائل التابعة لها بقطع مياه محطة علوك عن المدينة، لاسيّما في الفترة التي انتشر فيها وباء كورونا، ما أثر بشكلٍ سلبيّ للغاية، كما أنه كان لها أثر على التماسك المجتمعي حيث كانت تعاني مدينة الحسكة من نقص في المياه، على خلاف باقي المناطق في شمال شرقي سوريا، وهذا الأمر سبّبَ نقمة لدى الأهالي في مدينة الحسكة”

الخلافات ذاتها تشهدها مدينة القامشلي من أجل المياه ونقصها، حيث أن هناك اتهامات عدة يتم توجيهها من قبل الأهالي لبعضهم/ن، كما يوضح “موسى” في حديثه

“المشكلة لم تكن موجودة فقط في مدينة الحسكة وحسب، حيث أن مدينة القامشلي والتي يوجد فيها مكونات كثيرة، تعاني أيضاً من أزمة المياه ونقصها في فصل الصيف على وجه التحديد، ذلك يؤثر على التماسك المجتمعي، حيث يتم تغذية مناطق معينة دون الأخرى، هذا الأمر يسبب شرخاً كبيراً بين الأهالي، وعلى مدى البعيد سوف تؤثر أزمة المياه على نفسية الأهالي، والإحساس بالانتماء للمجتمع”.

وتؤكد “أورشينا حنا” الإدارية في الجمعية الآثورية للإعانة والتنمية، أن خلافات كثيرة تحدث بين الأهالي بسبب نقص المياه، الأمر الذي يستدعي التدخل المبكر لحل هذه الخلافات تجنباً لحدوث مشاكل أكبر بين أهالي المنطقة، مشيرةً إلى ضرورة قيام منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، بتسليط الضوء على هذه الظواهر كي تكون وسيلة ضغط على السلطات المحلية لإيجاد الحلول اللازمة، مثل تجديد شبكات المياه، والضغط على أصحاب الصهاريج لتقليل التكلفة، والاستعانة بالخبرات الخارجية للاستفادة من نهرَيّ الفرات ودجلة.

تقول أورشينا إن “أزمة المياه التي تحدث في الأحياء من الممكن أن تؤدي إلى ضرب السلم الأهلي بين سكان هذه الأحياء لاسيّما إن كانوا من عدة مجتمعات، أحياناً تبدأ بتحسس بين الأهالي، من ثم المشادات اللفظية، ثم العراك بالسلاح الأبيض، وهذا من حصل في المنطقة، لذا من الضروري أن يتم تدارك هذه الخلافات التي تحدث بين الأهالي والتي تنجم عن الأمور الخدمية”.

ويتركز دور منظمات المجتمع المدني في شمال وشرق سوريا على الندوات والجلسات الحوارية التي تمحورت عن وضع المياه ونقصها، إلى جانب القيام بحملات إلكترونية دعت إلى استنكار قطع تركيا للمياه على المناطق الشمالية، كما يوضح عباس علي موسى بقوله “كان هناك بيان أصدرته مجموعة من منظمات المجتمع المدني، لإدانة قطع المياه من قبل تركيا، ومناصرة قضية المياه، إلى جانب قيام منظمات أخرى بتنظيم الجلسات والمنتديات حول المياه، كان هناك عمل من قبل المنظمات المدنية، ولكن الأزمة بحاجة إلى عمل أكبر على الجانب الميداني، وليس التوعوي فقط”

مع استمرار الخلافات والمشاجرات الكثيرة التي تحدث بين الأهالي في مدينة الحسكة وغيرها من مدن شمال وشرق سوريا، والتي تهدد السلم الأهلي والتماسك المجتمعي في المنطقة، لا بد على الإدارة الذاتية والمنظمات المدنية التدخل المبكر لتجنب حدوث شرخ أكبر في المجتمع، من خلال تشكيل لجان خاصة هي لجان الإنذار المبكر، بحيث تكون مهامها، العمل على تقديم الحلول للقضايا التي تلحق الضرر بالمجتمع، بحسب ما تؤكده أورشينا.

مشاركة:

علق تعليق